منازل بلا كهرباء وأطفال بلا مدارس.. الفقر العميق يلتهم الحقوق في تركيا

منازل بلا كهرباء وأطفال بلا مدارس.. الفقر العميق يلتهم الحقوق في تركيا
أحد الأحياء الفقيرة في تركيا

في الوقت الذي أحيت فيه الأمم المتحدة اليوم العالمي لمكافحة الفقر، كشفت بيانات حديثة عن صورة قاتمة للواقع المعيشي في تركيا، حيث يعيش ملايين الأطفال والأسر في فقر عميق لا يقتصر على نقص الدخل، بل يمتد إلى حرمان من الحقوق الأساسية في الغذاء والسكن والتعليم والصحة.

جاء ذلك في تقرير لشبكة الفقر العميق التي حذرت من أن الفقر في تركيا لم يعد ظاهرة مؤقتة، بل تحول إلى بنية اجتماعية مزمنة تمس كرامة الإنسان وحقوقه وفق صحيفة "زمان" التركية.

الفقر كوجه آخر لانتهاك الحقوق

تقول هاجر فوغو، مؤسسة شبكة الفقر العميق، إن الفقر في جوهره ليس مجرد عجز عن كسب المال، بل هو "حالة من عدم الوصول"، أي حرمان شامل من الموارد والفرص، وتضيف أن ما تعيشه الأسر التركية اليوم هو شكل من أشكال انتهاك حقوق الإنسان، لأن الحق في العيش الكريم يشمل الغذاء والماء النظيف والمسكن والتعليم والصحة والثقافة، وهي حقوق لم تعد متاحة لشرائح واسعة من المجتمع.

وتشير الشبكة إلى أن سبعة ملايين طفل في تركيا يعيشون في ظروف فقر أو إقصاء اجتماعي، وأن تسع أسر من كل عشر تعاني من صعوبة في تأمين وجبة إفطار يومية لأطفالها، وفي حالات عدة، يتخلى الأطفال عن الدراسة من أجل العمل أو مساعدة أسرهم، ما يجعل الفقر يتوارث جيلاً بعد جيل.

بين الإحصاءات والوجوه

البيانات التي جمعتها شبكة الفقر العميق من 108 أسر تعكس صورة إنسانية مؤلمة، حول الأوضاع في تركيا فـ97 أسرة تعاني من انعدام الأمن الغذائي، و93 أسرة لا تستطيع تغطية نفقات التعليم، و71 أسرة واجهت انقطاع الكهرباء أو الماء أو الغاز مرة واحدة على الأقل خلال العامين الماضيين.

وتعيش 84 أسرة في خوف دائم من التشرد بسبب عدم القدرة على دفع الإيجار، في حين اضطرت 51 أسرة إلى تغيير منازلها أكثر من مرة خلال عامين.

وفي بعض الحالات، اضطر الأطفال إلى ترك المدرسة للعمل لإعالة أسرهم، إحدى الأمهات قالت: "ترك ابني المدرسة لأنني لم أستطع دفع الإيجار، فبدأ العمل ليساعدنا، بعض الأطفال لا يذهبون إلى المدرسة لأنهم لا يملكون ما يأكلونه في الصباح".

وتروي أخرى: "انقطعت الكهرباء عن منزلي فعشت 25 يوماً على ضوء الشموع. أنا مصابة بالسرطان وأعمل في تنظيف السلالم لأعيش. أطفالي ينامون على الأرض لأنني لا أستطيع شراء سرير".

الفقر الدائم بدل المؤقت

منسق البحوث في شبكة الفقر العميق أندر أوتشار يقول إن الفقر في تركيا أصبح ظاهرة دائمة وليست ظرفية، ووفقاً لبيانات مكتب الإحصاء التركي لعام 2024، يعيش نحو 29.3 في المئة من السكان تحت خطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي، أي ما يقارب ثلث سكان البلاد.

وأوضح أن إسطنبول، التي تمثل مركز الاقتصاد التركي، تحتضن 28.6 في المئة من الأسر الأعلى دخلاً، في حين يعيش أكثر من 16 في المئة من الأسر ذات الدخل الأدنى في المناطق الطرفية والريفية.

وتحتل تركيا، بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، المرتبة الأدنى بين دولها في حجم الإنفاق الاجتماعي العام، وهو ما يعمق التفاوتات الطبقية ويجعل العدالة الاجتماعية هدفاً بعيد المنال.

الأطفال الأكثر تضرراً

بحسب الشبكة، يعيش أكثر من سبعة ملايين طفل في تركيا في ظروف فقر أو إقصاء اجتماعي. واحد من كل عشرة لا يملك ملابس جديدة، وواحد من كل عشرة لا يتناول فواكه أو خضراوات طازجة بانتظام، وواحد من كل ثلاثة عشر لا يحصل على وجبة تحتوي على بروتين حيواني.

كما ارتفعت نسبة الأطفال العاملين في الفئة العمرية من 15 إلى 17 عاماً إلى نحو 24.9 في المئة، ما يعني أن واحداً من كل أربعة أطفال يعمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة.

الآثار النفسية لهذه الظاهرة عميقة. فقد أظهرت مقابلات أجرتها شبكة الفقر العميق أن الكثير من الأطفال يشعرون بالخجل أو الحزن من عدم قدرتهم على المشاركة في الأنشطة المدرسية أو الحصول على ملابس جديدة، ما يؤدي إلى انسحابهم الاجتماعي وتدهور صحتهم النفسية.

النساء في قلب المعاناة

تظهر بيانات عام 2024 أن 31.5 في المئة من النساء في تركيا تحت خطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي، ويعود ذلك إلى عدة عوامل، منها تركّز النساء في وظائف منخفضة الأجر أو في العمل غير الرسمي، إضافة إلى العبء الكبير لأعمال الرعاية غير المدفوعة في المنزل.

كما تواجه النساء معدلات مرتفعة من العنف الأسري والتمييز في فرص العمل، ما يجعل الفقر النسائي ظاهرة مركبة تتقاطع فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الأبعاد القانونية والحقوقية

ينص الدستور التركي على أن الجمهورية "دولة اجتماعية"، ما يفرض التزاماً قانونياً على الحكومة بضمان الحد الأدنى من العيش الكريم لمواطنيها، كما تلزم الاتفاقيات الدولية، التي وقعت عليها أنقرة، الدولة بحماية الحق في السكن والغذاء والتعليم والصحة وفق العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

لكن منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها شبكة الفقر العميق، تؤكد أن السياسات الحكومية الحالية تركز على المساعدات المؤقتة بدلاً من الحلول الجذرية القائمة على الحقوق، وتطالب بإعادة تعريف الفقر ليس كمسألة اقتصادية، بل كقضية حقوق إنسان، تتطلب آليات مساءلة ومراقبة.

موقف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية

تؤكد الأمم المتحدة في تقاريرها السنوية حول الفقر في تركيا أن مستويات الحرمان المادي واللامساواة في الوصول إلى الخدمات تزايدت خلال العقد الأخير، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي أعقبت عام 2018 وتدهور قيمة الليرة التركية.

وأشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى أن الأطفال الأتراك، خاصة في المناطق الريفية وجنوب شرق البلاد، يواجهون مخاطر متزايدة من سوء التغذية والانقطاع عن التعليم، داعية إلى زيادة مخصصات الميزانية لبرامج الحماية الاجتماعية.

من جانبها، ذكرت منظمة العمل الدولية أن معدلات عمالة الأطفال في تركيا ما تزال مرتفعة رغم القوانين الصارمة، مشيرة إلى أن الفقر يدفع الأسر إلى إرسال أطفالها إلى سوق العمل مبكراً في قطاعات الزراعة والخدمات والتصنيع.

انعكاسات اقتصادية واجتماعية

تؤكد دراسات اقتصادية محلية أن الفقر المزمن يضعف الإنتاجية ويزيد من الاعتماد على المساعدات الحكومية، ما يخلق دائرة مغلقة يصعب كسرها، كما أن تدهور مستويات المعيشة يؤدي إلى ارتفاع معدلات الهجرة الداخلية من المناطق الريفية إلى المدن الكبرى، ما يفاقم الضغوط على البنية التحتية والخدمات الحضرية.

ويشير خبراء في الاقتصاد الاجتماعي إلى أن ارتفاع التضخم المستمر، وتراجع القوة الشرائية، وارتفاع أسعار الإيجارات، كلها عوامل أسهمت في زيادة معدلات الفقر خلال عامي 2024 و2025، رغم بعض الإصلاحات التي أطلقتها الحكومة لتحسين الأجور.

دعوات للحلول العاجلة

دعت شبكة الفقر العميق إلى تبني سياسة اجتماعية قائمة على الحقوق، وليس على الإعانات، وطالبت بقياس الفقر وفق أبعاده المتعددة من تعليم وصحة وسكن وكرامة إنسانية، وضمان الخدمات الأساسية مثل الماء النظيف والطاقة والسكن الآمن، إضافة إلى تقديم وجبة ساخنة مجانية لكل طفل في المدرسة، وإنهاء ظاهرة عمالة الأطفال.

كما شددت على ضرورة دعم النساء العاملات في مجال الرعاية وتوفير برامج تأهيل مهنية للأسر ذات الدخل المنخفض.

وختمت فوغو حديثها مؤكدة أن "الفقر ليس قدراً بل نتيجة لسياسات يمكن تغييرها"، وأن مسؤولية الدولة الاجتماعية تفرض عليها ضمان حياة كريمة لكل فرد وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

يُعد الفقر في تركيا قضية مزمنة ارتبطت بدورات التضخم والبطالة منذ تسعينيات القرن الماضي، ومع التحولات الاقتصادية الأخيرة وتراجع قيمة العملة المحلية، زادت معدلات الحرمان المادي رغم النمو في بعض القطاعات.

وبحسب تقارير البنك الدولي لعام 2025، يعيش نحو 18 في المئة من السكان تحت خط الفقر الوطني، في حين تشير تقديرات المنظمات المحلية إلى أن الأثر الحقيقي أوسع من الأرقام الرسمية بسبب اتساع الاقتصاد غير الرسمي وصعوبة الوصول إلى الإحصاءات الدقيقة.

وفي ظل هذه المعطيات، يبقى الفقر في تركيا تحدياً إنسانياً يتجاوز المؤشرات الاقتصادية إلى جوهر العدالة الاجتماعية، حيث لا تزال ملايين الأسر تحلم ليس بالرفاهية، بل بوجبة كافية وكهرباء لا تنقطع وأمل في تعليم ينقذ أبناءها من تكرار الدائرة ذاتها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية